مدونتنا

١٨‏/١٢‏/٢٠٢٣

في ضيافة اللغة العربية

 

محمد تيسير الزعبي

يُثير عنوان هذه الكلمات أسئلة كثيرة حول هوية مُتحدث اللغة، وكيف يُصبح الإنسان ضيفًا في حضرة لغته، مع أن منطق الأشياء يفرض العكس، فمن يَتحدث العربية ينبغي أن يُرحِّب بغير العربي عندما يريد تعلّم العربية، والتحدث بها.

كيف يمكن لنا أن نُقيمَ علاقة مُستقرة بلغتنا العربية؟

في الماضي كنا نتحدث عن ضعف عامة الناس عندما يكتبون بالعربية، أو يتحدثون بها، واليوم وصل هذا الضعف صفوف الأكاديميين والإعلاميين والمحامين وغيرهم من المختصين الذين لا يخجلون من الاعتراف بأنهم يتقنون الكتابة بالإنجليزية، ولا يعرفون التعبير عن الفكرة نفسها بالعربية.

هذا الحال مع من يحملون درجة علمية في تخصص ما، فكيف سيكون الأمر عندما نتحدث عن طلبة في مقاعد الدرس!

عَجْزُ ابن اللغة عن ضبط مفرداتها، والتمكن من تراكيبها أمر مثير للاستغراب، إذ كيف سنفهم -لاحقًا- تمكُنه من لغة أخرى -ربما تكون أيضًا العامية أو لهجته المحكية- وعجزَه عن التعبير بالفصحى الفصيحة.

إنه أمر مربك، يدفع صاحبه المتوتِر لإعفاء نفسه من المسؤولية ولوم اللغة، واتهامها، ولا أعرف كيف ضاق مجمع اللغة العربية في مصر بكلمة (ترند) فأدخلها إلى العربية، ولم ينتبه إلى مفردات مثل: شائع، رائج، منتشر، ذائع، سائد، متداول، مشتهر، بارز، دارج، فاشي.

هذا مثال بسيط يُبرئ ساحة اللغة العربية من ضيقِها، وهي التي وسعتْ كلام الله تعالى لفظًا وغاية، ولم تَعجز عن تنسيق أسماء لمخترعات، كما يقول حافظ إبراهيم في قصيدته المشهورة دفاعًا عن اللغة العربية.

اللسانُ يَجري بما يُمليه المكان، ونحن منذ أن دَرَجَتْ ألستنا بالعامية المبتذلة، أو الإنجليزية المتكلفة صارت الفصحى الفصيحة غريبة الوجه واللسان، وصرنا نستصعِبها، ونُلقي اللوم عليها بابتعاد الناشئة عنها، مع أن أطفالنا كانوا يرددون مفرداتها القادمة من مسلسلات الرسوم المتحركة بأريحية، يفهمون المقصود بها، ويوظفونها بصحة ودقة.

هجرة الفرد للغة ستُفضي بالتأكيد إلى غربة عنها، فلن تستطيع اللغة صبرًا على الهجران، وستكون النتيجة إقصاء يجعلنا ضيوفًا على اللغة العربية، مع أن المفروض أننا أبناؤها وسدنتها.

ما يتوجبُ علينا فِعله في هذه المرحلة التاريخية هو البحث عن مكان لائق للعربية بين اللغات المستقبلية، تُحركنا لتحقيق هذه الغاية رغبة قوية بألا نكون ضيوف لغتنا، بل نملكُها، ونسيطرُ عليها برغبة أكيدة في الفهم، والبقاء وسط مفرداتها وتراكيبها، وقدرتها الفريدة على التواصل، نصنعُ الحدث بكلماتها، ويدفعُنا الفضول اللغوي للبحث عن مفردات تقابل المعاني الكثيرة التي يجود بها الاختراع والعلم والاكتشاف؛ لنصبحَ أسياد لغتنا في كل مكان وزمان.

لنجعلْ غرفة الصف المنطلق الأول لمنع اللغة من الفرار منا، نروّضُ صعبها لطلبتنا، ونضبط مجالها، ونحدد تفاصيلها؛ كي تغدو جاذبة للناشئة، نتكلمُ بها، ونكتبُ بها، تحل على قلوبنا وأسماعنا خفيفة لطيفة لا تحتاج لاستئذان، تمتَلِكنا وتسكُننا، وتُحدث في أرواحنا ذلك الأثر السحري الذي يُبقينا مشدودين لها. 

اللغة أهم ما يميز هوية الفرد، ومثلما نَسعَدُ بإتقان أبنائنا للغة أخرى فإن هذه السعادة لا يجب أن تكون على حساب العربية لغتهم الأم، إذ بالكاد يستطيعون تكوين تركيب عربي يعبر عن شعورهم تجاه قضية ما، الأمر الذين يوقعهم بتناقض في مواجهة الآخر الراغب بتعلم العربية، فتراهما في المسافة نفسها من اللغة العربية، رغم أن أحدهما ابن اللغة، بينما الآخر ضيفها، لكن ما أوصل ابن اللغة إلى تلك الدرجة المساوية للغريب عنها هو تخليه عن سحر العربية المذهل، وحرمان لسانه من مداعبة كلماتها.

جرّبتُ أن أكون ضيفًا على لغات أخرى، ولهجات أخرى، فاكتشفتُ أن الكلمة لا تأتي خالية الوفاض، بل تحمل في طياتها السياق الملائم لقولها، والظل المناسب للتعبير بها، وهي بهذا المعنى لن تكون كذلك إلا إذا كانت باللغة الأم، وهذا الأمر لن نُمسك به إذا ما بقينا ضيوفًا على لغتنا.

منذ ٤ أشهر

أحدث التدوينات