
الكاتب: الأستاذة بوران الربابعة
نشر في: نوفمبر 16, 2025
في عالمٍ يمضي بخطى سريعة، يغدو صوتُ الطفولةِ خافتًا إن لم نُصغِ إليه. ولا شك أننا ندرك اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى أنّ الطفلَ لا يحتاجُ فقط إلى تعليمٍ جيّد، بل إلى بيئةٍ تصنعُ لهُ السعادةَ، والأمانَ، والدهشةَ. فالطفولةُ ليستْ محطة مرور لكنها حياة كاملة تستحقُّ أن تُعاشَ بتفاصيل أحلامها وبساطة براءتها.
يقولُ الخبراء عن الطفولة بأنها ليست نافذةً صغيرة تطل على الحياة لكنها تأسيس لكل المعاني والقيم التي يحملها الإنسان لاحقًا حينما يتقدم في مدارج العمر، وإذا نظرنا إلى هذه المرحلة على أنها تأسيس لإنسانيتنا واستحضرنا فاعليتها فإن طريقة التزامنا نحوها واستعدادنا لها ستختلف لتخليق معاني عظيمة في نفوس الناشئة لها تأثير على المجتمعات في مسارات مستقبلها وتقدمها.
رفاهٌ نفسيٌّ يصنعُ قلبًا مطمئنًا
إنّ الطفلَ بحاجة إلى علاقةِ حبٍّ معه غير مشروطةٍ، تُحفَظُ فيها مشاعرُهُ وتُحترمُ دونَ ترددٍ، ودون أن نحمل عليها أحكامًا، ولعل من الحكم المتداولة في هذا السياق قولهم: العلاقاتُ أبلغ فعلا من الكلمات، إن استقبال الطفل بالبشاشة، والدفء الذي ينبعث من تلاصق الأجساد حين احتضانه، تملآن نفسه وقلبه طمأنينة وأمانا، وربما تكون هذه اللحظة بلسمًا لانجراحات نفسه، وانكساراتها، وتكون في أوانها علاجًا حقيقيًا يمنح دماغه القدرةَ على النموِّ بثقةٍ وأمان وتصبح نفسه قوية رصينة ممتلئة بما يكفيها من مشاعر المحبين، وفي هذا المقام تأتي الحكمة النبوية " تبسمك في وجه أخيك صدقة" فكأن هذه الابتسامة نسمة روحية لطيفة تصل ما بين القلوب فتفتح مغاليقها قبل أن تفعل الكلمة وتنشئ التعارف والألفة قبل تنشئها الكلمات والحوارات.
عالمه الصغير يملأ وعيه ويفيض بالمشاعر
عقول أطفالنا مساحات واسعة قابلة لأن تُملأ بالوعي، وقلوبهم شفيفة رقيقة متعطشة للحب و المشاعر، ونحن -المربين - نملأ وعيهم بما نعلمهم إياه، ونملأ قلوبهم بالمشاعر التي يكتسبونها من سلوكنا معهم، لا من محاضراتنا عنها؛ فيتعلّم المشاركة حين يرى من يشاركه، ويتعلم الحب والاهتمام حين نحبه ونهتم به.
وحين ندرك أهمية أفعالنا معه ومقدار اكتسابه منها، سندرك تمامًا أن كل تصرف مهما صغر هي بصمة نتركها في نفسه أو وعيه أو مشاعره، وأن كل لقاءٍ معه هو درسٌ في بناء شخصيته سيظل قائمًا فيها على مدى عمره وسيشكّل وعيه ووجوده.
وحين ندرك مدى تأثيرنا عليه سنحرص على أن تكون المعاني والقيم حاضرة في كل فعل نقوم به، وكل كلمة نقولها، وسندرك أن اللعبة التي يلعبها معنا أو مع أقرانه التي تقوم على قيمة التعاون وفكرة التشارك – مثلا- ليست عبثا طفوليًا ولا ترفًا، ولكنها تنطوي على منجم من المهارات الحياتية؛ كحسن الإصغاء، وفن التفاوض، والمبادرة، وحلّ النزاعات بلطف وأناة.
عقولهم تنمو بالدهشة
التعلّمُ في الطفولةِ رحلةٌ اكتشافٍ، لا سباقُ درجاتٍ وشهاداتٍ. يقول الدكتور دانيال سيغل، رائد علم الدماغ العاطفي: حين نشعرُ بالأمان، تنفتحُ عقولُنا على التعلّم والتواصل، الأطفالُ يتعلّمون عندما يلمسون، يجرّبون، يسألون، ويتخيلون. اللعبُ ليس مضيعةً للوقت؛ إنّه أعظمُ معملٍ يُصنعُ فيه العقلُ المبدعُ والواثقُ.
أجسادٌ تتحرّكُ... أرواحٌ تنمو
الحركةُ اليوميةُ، والتغذيةُ المتوازنةُ، والنومُ الكافي، ليست تفاصيلَ بسيطةً بل أساسياتُ النموِّ الصحّي. الطفلُ الذي يلعبُ في الهواءِ الطلقِ، يقفزُ ويتسلقُ ويركضُ، لا يبني عضلاتٍ فقط، بل يبني عقلًا أقوى وتنظيمًا ذاتيًا أفضل. كلُّ خطوةٍ صغيرةٍ في الملعبِ تصنعُ ثقةً كبيرةً في الحياة.
رفاهٌ رقميٌّ واعٍ ومتوازن
أصبح عالمنا اليوم رقميًا، لكنّ الطفولةَ لا تُقاسُ بالضوءِ الأزرقِ للشاشات. نحتاجُ أن نعلّم أطفالنا استخدامَ التكنولوجيا كأداةٍ للتعلّمِ والإبداعِ، لا كبديلٍ عن لمعةِ العينِ، وصوتِ الضحكةِ، وحرارةِ اليدِ في يدِ صديقٍ جديدٍ.
بيئةٌ حاضنةٌ: البيتُ والمدرسةُ أوطان صغيرة
الطفلُ يشعرُ بالأمانِ حين يرى الكبارَ مستقرّين عاطفيًا. ويشعرُ بالقيمةِ حين يُستمعُ إليه. ويشعرُ بالاحترامِ حين يجدُ مساحةً ليكونَ هو، لا نسخةً نُحبُّها نحن ونشكلها وفق تصورنا. والمدرسةُ ليستْ قاعةَ تدريسٍ فقط، لكنها مكانٌ يَكتشفُ فيه الطفلُ نفسهُ والعالمَ. والبيتُ ليسَ جدرانًا، بل حضنٌ ورائحةُ دفءٍ وذاكرةُ حبٍّ تُرافقُهُ ما عاشَ.
الطفلُ الذي نريد
نريدُ طفلًا سعيدًا، طفلًا يسمعُ العالمَ ولا يستغربه، يختبرُ الحياةَ ولا يخافها، يحلمُ ويسعى نحو تحقيق أحلامه لا يرهب المحاولة ولا يكسره السقوط؛ فلنمنحه يدًا تُمسك به، وقلبًا يفهمهُ ،ومساحةً يكبرُ فيها دون خوفٍ ففي كلِّ طفلٍ نورٌ، وفي كلِّ لحظةِ دعمٍ نمنحها إياهُ، تتسعُ مساحةُ الضوءِ في العالمِ كلِّه؛ فلنُصغِ لنداءِ الطفولةِ قبل أن يُخرِسَهُ الألم، ولنمدَّ أيدينا قبل أن يفوتَ الوقت، فالعالمُ الذي لا يُنقِذُ أطفالَه لا يُنقِذُ نفسَه.