Picture of the author
Picture of the author
Picture of the author

نشر في: ديسمبر 11, 2024

اللغة العربية والرياضيات: الرمز والكلمات

قد يبدو للبعض أن الرياضيات واللغة العربية يسيران في خطين متوازيين لا يلتقيان، فالرياضيات تُجسّد لغة الرموز والتجريد العقلي، بينما اللغة العربية هي عالم الكلمات والمعاني الملموسة. وربما يعزى هذا التصور إلى اعتقاد البعض بعزلة كل مجال عن الآخر، إذ يعمل أهل الرياضيات في صوامع الرموز، ويتأمل اللغويون في رحاب المفردات. ولكن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذا الانفصال الظاهري، فالعلاقة بينهما وثيقة وعميقة، إذ يمثلان معًا أدوات الفكر والوجدان الإنساني. فاللغة العربية هي وعاء المعاني، والرياضيات هي مفتاح التجريد، ولا يمكن للذهن أن يحلل فكرة أو يرسم تصورًا دون الاستعانة بالألفاظ كأداة لغوية، أو الرموز كأداة رياضية.

 

وفي عصرنا الحديث، تحولت الكتابات الرمزية لعلم المنطق الرياضي إلى أداة مذهلة قادرة على صياغة اللغة وتمثيلها برموز رياضية دقيقة، لتصبح قابلة للبرمجة في أنظمة الحواسيب. هنا، ينفرد المنطق الرياضي بكونه نموذجًا مثاليًا للقياس المنهجي، حيث يسعى إلى بناء نماذج رياضية تُسهم في حل المسائل اللغوية. ولم يكن هذا التحول عاديًا، بل نقل المنطق الفلسفي من كونه نموذجًا وصفيًا يكتفي بشرح الظواهر، إلى نموذج معياري صارم يُحدد الثوابت والمتغيرات في معادلات دقيقة.

 

بهذا الانقلاب الفكري، غدا المنطق الرياضي جسرًا يربط بين التجريد الفلسفي والدقة الرياضية، أداةً جبارة تُعيد تشكيل أساليب التفكير الإنساني، وتفتح أبوابًا غير مسبوقة لفهم اللغة العربية، وتصميم الحلول المعرفية، ورسم ملامح عصر جديد من التفكير والتحليل. إن هذه القدرة على تحويل الأفكار المعقدة إلى رموز ومعادلات رياضية ليست مجرد مهارة مكتسبة، بل هي بوابة لفهم أعمق للحقائق واستيعاب أوسع للنصوص، مما يجعل الرياضيات ليست علمًا فحسب، بل أسلوب حياة ومنهج تفكير يمكّن صاحبه من رؤية العالم بوضوح ودقة متناهية؛ تتجلى هذه العلاقة في استخدام الرياضيات في مجالات لغوية مختلفة، مثل تحليل النصوص وإجراء الإحصائيات، وهناك العديد من الأمثلة على هذه العلاقات التي تبرز التداخل العميق.

 

فمن الأمثلة التاريخية الطريفة التي تُبرز هذا التداخل الفريد بين اللغة العربية والرياضيات، هو استخدام الأدباء الفرس لحروف الهجاء الأبجدية كرموز عددية. فقد نظموا الحروف في تسلسل معروف: "أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، ثخذ، ضظغ"، ومنحوا كل حرف قيمة عددية محددة: مثلًا، أ = 1، ب = 2، ج = 3، وهكذا حتى غ = 1000. لم يكن هذا الترتيب عبثيًا؛ بل استُخدم لتأريخ الأحداث المهمة، مما يُظهر إبداعًا لغويًا ورياضيًا متناغمًا، حيث وظفوا الأبجدية بأسلوب يعكس عبقرية فكرية فريدة تجمع بين دقة الأرقام ورمزية اللغة.

 

هذه الأمثلة تُظهر بجلاء كيف تتقاطع الرياضيات مع اللغة العربية في جوانب متعددة، مما يؤكد أن هذا التداخل ليس مجرد صدفة، بل هو انعكاس طبيعي لعلاقة فكرية ومنهجية عميقة بين المجالين.تمتاز الرياضيات باستخدام الرموز بديلاً عن الكلمات، مما يجعلها لغة خاصة تعبر عن الأفكار المجردة. وهي تشترك مع اللغة في السعي نحو تحقيق عمق علمي وتجريد فكري في دراسة الظواهر المختلفة .

 

إن الحاجة إلى تحقيق طفرة نوعية في حوسبة اللغة تتطلب عملاً دؤوباً يتجاوز حدود النماذج الرياضية التقليدية المستخدمة في تمثيل اللغة العربية. ورغم التقدم المحرز في هذا المجال، فإن النماذج الحالية تظل غير مستقرة، إذ إن أقصى ما تقدمه حتى الآن يقتصر على "جبر الكميات" الذي يفتقر إلى العمق اللازم لفهم البنى اللغوية المعقدة. هذا الوضع يبعث على الإحباط من الناحية العلمية، خاصة وأننا نسعى لمعالجة كميات هائلة من النصوص آلياً وبسرعة فائقة. إلا أن التحدي الأكبر يكمن في كيفية تفسير التراكيب القواعدية التي يتم وضعها، وهو ما يظل عصياً على الحل حتى الآن.

 

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق: هل آن الأوان للرياضيين أن يتخذوا خطوة جريئة نحو الانفتاح على اللغة  العربية واللسانيات؟ إن بناء نماذج رياضية تمزج بين المنطق والمعلوماتية، وتكون قادرة على فهم أعماق اللغة، يتطلب شراكة وثيقة مع علماء اللغة واللسانيات. فهذه المهمة ليست مجرد إضافة إلى الإنجازات الحالية، بل هي ضرورة تمليها الحاجة إلى تجاوز الحدود التقليدية في العلوم الرقمية، وابتكار منظومات معرفية قادرة على فك شيفرات اللغة الإنسانية بكل تعقيداتها ودلالاتها.

 

د. إيمان حسن مطالقة / اختصاصي تعليم في أكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلمين