نشر في: ديسمبر 24, 2024
اللّغة العربيّة وسيلة للتّواصل و أداة لنقل جماليات الكلمة ومصفوفات المعاني، فهي عالم من الجمال والإبداع، في كوامنها تفاصيل وأسرارٌ، لغة تحمل في طيّاتها ثراءً لُغويًا لا مثيل له، تتناغم فيه الألفاظ مع المعاني، وتزهر فيه الكلمة لتُفضي إلى لحنٍ رقيق يخاطب القلب والفكر معًا، هي فسيفساء لغوية مُرَصّعة بأصناف الأدب والفكر والثّقافة والحضارة متوّجة بالجمال، تَتَألّقُ في سماء المعنى نجوم فخارٍ وأَلَق.
في فسيفساء العربيّة تتناثر أبجديّات الكلمة كلآلئ برّاقة، وتنسجم في تفرّدٍ من نور؛ لتشكّل لوحةً فنيًة تقصُّ ثراءَ البدايات، إنّ صحراء العربيّة تخلّدُ الفِكرَ وتُرَسّخُ الوجدان وتحبو ظفائرُها في عروبتها كطفل يؤرّخ أصالتَه في ملامحه وقسماته الأزليّة، و يسرح الفكر في أعماقه كأسرارٍ تقاتل لتُكتَشف، هي نبتة يافعة تزدهر وتروي العقول بماء كلماتها ، وتلهم الأرواح بحروفها التي تسبغ المعاني كعباءة شمس تتسلّل على ذرّات الرّمال الذّهبية.
وتجد في مفردات اللّغة عمق التّاريخ، وقد امتزج فيها السّجع والبيان كأمواج بحرٍ تلامس عبق المكان، فهي شاهدة على الحضارة، ومرآة تعكس هُويّة الأمّة وصلابتها وأصالتها، وفي صمت الكلمة تفيض الحركة من السّكون، وبرجع الصّوت العابق برائحة الماضي والحاضر تلخّص أمجادًا سُطّرت بجلدِ الآباء وبصبر الأمّهات ، كأنّها قصيدة الشّموخ الخارجة من السّكون والحريّة؛ لتكتب نفسها على رمال الزّمن مسيرة بناء وصمود.
وإذا أبحرت في العربيّة تدرك أنّ الكلمات جواهر مكسوة بضوءٍ سحري، وتحمل سحرًا خاصًا، وكل حرف ينطق به صدى يتردد في أعماق الزمن، فهي كلمات ناطقة بالحياة ، وهي رسائل من حقب مضت، وتحمل في جعبتها أصداء لآفاقِ الحريّة، تتناغم العربيّة على لسان من يعرف سرَّها وتتفجّر من أعماقها ينابيع الإبداع، فترسوا على أعتاب أرضها واحات من المعاني.
وتنساب معاني العربيّة كنسائم عشقٍ ازليّة عُزفَت على أوتار الأبجديّة، وتتناعم الحروف كأمواج البحر؛ لتولد معاني الألفاظ و تُضيء الزّمان والمكان بنهج من الاتّزان والحكمة،ولا تكاد تجد في أيّ لغة أخرى تلك القدرة التي تملكها العربيّة على بناء الجمل والأفكار.
عندما نتحدث عن جمال اللغة العربية، نتحدث عن سحرٍ مبثوثٍ في كل كلمة، وحكاية تنبض بالحياة بين السّطور، فكأنّ كلمات العربيّة تمتلك روحًا متفرّدة بطابع خاصّ، تنبثق منها ألوان الحياة التي تضيء الإبداع وتثري العقول؛ فهي لغة الجمال والغناء، فبلاغتها تمنح الجملة نسقًا موسيقيًا يعبر عن تناغم الأفكار وتناغم الألفاظ. إنه لحنٌ لفظيٌ يعزف على أوتار اللسان، ويُسمع في آذان المتلقين، في السّجع تتناغم الألفاظ مع بعضها، فتتداخل الجمل لتعزف سيمفونية من المعاني التي تلامس الأعماق. فاللغة العربية تُعبّر من خلال السجع عن اتساق جمالي بين الجمل، ويُصبح وسيلة لرؤية الجمال في تركيب الكلمات.
والمدقّق في اللّغة وبحورها يجد أنّ ليس من الممكن إغفال البلاغة بمفهومها الفسيح، فكل كلمة فيها ليست مجرد لفظ، بل هي مفتاح لمعنى أوسع، وكل جملة عربية تحمل أبعادًا فكريّة وجماليّة، وتتعدد أدوات البلاغة في العربية، من المجاز، إلى الاستعارة، والتشبيه، والتورية، وغيرها من الأدوات التي تمنح اللّغة قدرتها الفذّة على تشكيل الأفكار وصياغتها في قوالب فنيّة بديعة، فحين نقول: "العقل كالمصباح"، فإننا لا نقصد العقل بصورة حرفيّة، ولكنّنا نُقَارِنُه بالنّور الذي يكشف لنا الحقائق. وهكذا تُجَسِّد اللغة العربية المعاني المجرّدة بطرقٍ إبداعيّة، وتربط الواقع بالخيال حاكها المبدع في لوحةٍ من البيان.
إنّ المتأمّل في قول اللّه تعالى:" مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" يدرك تشبيه العمل الصّالح بالحبّة، في تصوير فني يظهر مدى خصوبة العمل الصّالح وكيف ينمو ويزداد.
تناثر أضواء العربيّة كالنجم في سماء الأدب والفكر، وتظل ثريّة بكلماتها وحروفها التي تترك أثراً عميقاً في كل قلبِ متحدّثيها وسامعيها، وقد نقشت على أوراق الأدباء نسقًا من نور، ونبراسًا ثقافيًا يفضي إلى سُبُلِ الخلود عبر أزقّة الكلمة ونجوى العبارة.
وتزخر العربيّة بالعديد من الأساليب التي تُهذّب جمالها، وتضفي عليها تناغمًا موسيقيًا آسرًا، فكل جملة تتناغم مع الأخرى كأنها أوتارٌ عازفة عبر مُزُنٍ ماطرة، وقد انسجمت لتخلق إرثًا من الجمال السمعي المزركش بعبق الخزامى المتناثر بين الفكرة والصوت، حيث تتألق فيه الكلمات كنجوم في السماء الأدبية، إنّ النّظر في قول الخنساء :" الحمدُ خُلَّتُهُ، والجودُ عِلَّتُهُ والصِدْقُ حوْزَتُه، إنْ قِرْنُهُ هابا" يلاحظ كيف أنّ الكلمات محبوكة ببراعة لخلق إيقاعٍ مستمر يضفي على المعنى جمالًا إضافيًا.
إنّ اللّغة العربيّة لغة التّناغم بين المعاني والأصوات، وهي أداة موصلة إلى عوالم أخرى تلتقي فيها الكلمات ؛ لتخلق آفاقًا من الفكر والجمال، فلكل حرف دلالة، وكل صوت له جَرْس يترك أثرًا في النّفس، وينبض في كلّ كلمة من العربيّة نبض الرّوح، فالكلمة التي تبدأ بحرفٍ الميم "م" كـ "ماء" أو "موسيقى" تمتاز بأنها توحي بـ الهدوء والسّكينة. بينما نجد في الحروف مثل القاف "ق" أو الصّاد "ص" شيئًا من القوّة والصّلابة، كما في كلمتي "قوّة" و"صخر"، إذ يحمل كلّ حرف خصائص ذاتيّة تتكامل مع المعنى لتعطي للصّوت دلالةً .
يا درّة اللّغات، يا حافظة الفكر وجسر الحضارات، أنتِ الحروف التي تتراقص على أنغام الزّمن، فتغني الذّاكرة وتحيي الأرواح، لترسم صورةً من الجمال والبلاغة، فالعربيّة نبعُ الحكمة، تُمطرنا بكلمات تُشعِلُ العقول وتُشرق بها الأُفق، فهي صلبة كالصّخر، وهي الرّقة التي يطرب لها الوجدان، ويُقرأ التّاريخ من حروفها، جاب الشّعراء آفاق المكان عبر وحي العبارة، فرسّخوا قصص البطولة التي تتنفّس بقلمِ الإبداع.
د.عروب الشوابكة
اختصاصية تعليم
أكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلمين